اتسع الشرخ بين الغرب ودول الجنوب العالمي بشكل غير مسبوق بسبب حرب غزة، هذا الشرخ بدأ قبل سنوات، وازداد مع اندلاع حرب أوكرانيا وضغوط الغرب على دول الجنوب لإدانة روسيا وكذلك الابتعاد عن الصين.
ولكن العدوان الإسرائيلي على غزة، يكسب الخلاف طابعاً إنسانياً، ويعيد للأذهان في العالم الثالث الدور الاستعماري الغربي.
ولم يكن من الغريب أن تكون أكثر دول الجنوب تحركاً هي أشدها معاناة من الاحتلال والعنصرية مثل جنوب أفريقيا وبوليفيا أحد البلدان القليلة في العالم الذي ما زال أغلب سكانه من الهنود الحمر، الذين تعرضوا للإبادة في الأمريكتين على يد المستعمرين والمستوطنين البيض.
دول قطعت العلاقات وأخرى سحبت السفراء
ومع تواصل الحرب التي تشنها “إسرائيل” على قطاع غزة، كثف العديد من زعماء دول الجنوب العالمي، بما في ذلك دول من أفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا، انتقاداتهم للحكومة الإسرائيلية، وأقدم بعضهم على خطوات لم تقدم عليها الدول العربية والإسلامية المطبعة مع إسرائيل مثل قطع العلاقات الدبلوماسية أو سحب السفراء.
فبوليفيا أصبحت في 31 أكتوبر/تشرين الأول، أول دولة في العالم تقطع علاقاتها الدبلوماسية بشكل كامل مع دولة الاحتلال، واعتبرت ما يحدث في غزة “جرائم ضد الإنسانية”، حسبما ورد في تقرير لمنصة “أسباب” للدراسات السياسية.
وبعد بوليفيا، قطعت مملكة بليز علاقتها مع إسرائيل تنديداً بالقصف المتواصل على المدنيين في غزة.
وجنوب أفريقيا التي حافظت على دعمها التاريخي للقضية الفلسطينية، وافق برلمانها، الثلاثاء 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، بأغلبية الأصوات على تعليق جميع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل وإغلاق سفارة تل أبيب في العاصمة بريتوريا، إلى أن يتم الاتفاق على وقف إطلاق النار في قطاع غزة التي تشهد عدواناً إسرائيلياً منذ شهر ونصف.
لقي مشروع القرار تأييد 284 نائباً في برلمان جنوب إفريقيا مقابل تصويت 91 نائباً ضده.
وقبل ذلك، استدعت جنوب إفريقيا سفيرها لدى “إسرائيل” في 6 نوفمبر/تشرين الثاني، ووصفت الحرب بأنها “إبادة جماعية”، ثم عقب ذلك، قررت حكومة جنوب أفريقيا، أيضاً استدعاء جميع دبلوماسييها في إسرائيل للتشاور؛ على خلفية الوضع الحالي في المنطقة.
ودعت جنوب إفريقيا، الإثنين 30 أكتوبر/تشرين الأول 2023، الأمم المتحدة إلى نشر قوة سريعة لحماية المدنيين في غزة من مزيد من العدوان الذي يمارسه الاحتلال الإسرائيلي .
وتدافع جنوب إفريقيا منذ فترة طويلة عن السلام في منطقة الشرق الأوسط، مشبهة محنة الفلسطينيين التي يعيشونها منذ عقود، بما شهدته جنوب أفريقيا تحت نظام الفصل العنصري الذي انتهى عام 1994.
أما كولومبيا وهي دولة تعد حليفاً رئيسياً لواشنطن في أمريكا الجنوبية، فلقد استدعى رئيسها اليساري غوستافو بيترو سفير بلاده لدى الاحتلال، وانتقد جرائم الحرب الإسرائيلية في غزة، ووصف جيش الاحتلال بالنازية، ودخل في مشادة مع سفير إسرائيل لدى بلاد.
وتشيلي، في بداية الأمر، ندد رئيسها غابرييل بوريك بهجوم حماس على “إسرائيل”، ولكن مع تصاعد العدوان على غزة استدعى بوريك سفير بلاده لدى دولة الاحتلال.
البرازيل أكبر دول أمريكا اللاتينية واللاعب الصاعد على الساحة الدولية، حاول رئيسها لولا دي سيلفا تبني موقف محايد؛ حرصاً منه على الموازنة بين اليسار البرازيلي الداعم لإقامة دولة فلسطينية، واليمين في بلاده الداعم لإسرائيل. ولكن مع تصاعد جرائم الاحتلال في غزة، انتقد لولا “إسرائيل”، ووصف حربها في غزة بأنها “إبادة جماعية”.
المكسيك، أقرب دول أمريكا اللاتينية للولايات المتحدة والتي كان ينظر إليها أحياناً على أنها حديقة خلفية لواشنطن، أعلن رئيسها أندريس مانويل لوبيز أن بلاده تريد أن تكون جزءاً من جهود التوصل إلى حل سلمي. لاحقاً، اعتبرت حكومة المكسيك أن هجمات إسرائيل قد ترقى إلى جرائم الحرب.
وفي 17 نوفمبر/تشرين ثاني 2023، أعلن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، تلقيه طلبات إحالة من خمس دول أعضاء بالمحكمة، هي جنوب أفريقيا، بنغلاديش، بوليفيا، جزر القمر، وجيبوتي، للتحقيق في جرائم الحرب الإسرائيلية في حرب غزة.
تكشف حرب غزة عن الصدع المتزايد بين الغرب من جهة ودول الجنوب العالمي من جهة أخرى؛ حيث ظهرت الولايات المتحدة وحلفاء محدودون معزولون عن الإجماع الدولي الذي عبر عنه قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الداعي لوقف الحرب، والذي وافقت عليه 120 دولة، وعارضته الولايات المتحدة و13 دولة أخرى، فيما امتنع عن التصويت 45 دولة أغلبها أوروبية.
أظهر القرار عزلة أمريكا، والانقسام الحاد حول القضية الفلسطينية؛ حيث تقف أمريكا بحدة مع تل أبيب وبصورة أقل أوروبا، بينما يعارض بقية العالم الدولة العبرية بشكل واضح.
وسبق أن كشف غزو روسيا لأوكرانيا أن غالبية دول الجنوب العالمي لم تعد متماهية مع سياسات أمريكا وحلفائها الغربيين؛ حيث اتخذت دول مثل الهند والبرازيل ودول أفريقيا وغالبية الدول العربية والإسلامية موقفاً محايداً من الصراع، أو على الأقل رفضت الانضمام للعقوبات الغربية مع روسيا، حتى لو أدانت غزو روسيا لأراضي أوكرانيا.
لماذا جاءت أعلى الأصوات معارضة لإسرائيل من أمريكا اللاتينية البعيدة التي ينظر لها كحديقة خلفية لواشنطن؟
حاولت الولايات المتحدة منذ استقلالها جعل أمريكا اللاتينية حديقتها الخلفية ومنطقة نفوذ حصرية لها.
وقد يكون هذا السبب في جعل أعلى الأصوات معارضة للعدوان الإسرائيلي على غزة قد جاءت من هذه المنطقة، المحملة بثقل تاريخ الهيمنة الأمريكية، كما أن سياسات الاستعمار الإسباني الاستيطاني الذي أباد واستعبد السكان الأصليين ما زالت جاثمة في الذاكرة الجمعية لهذه المنطقة، سواء في المناطق ذات النسب الكبيرة من الهنود الحمر أو المناطق التي يمثل فيها ذوو الأصول المختصة بين الأوروبيين والأفارقة والهنود الحمر نسبة كبيرة، وخاصة أن إرث التعالي الطبقي في المنطقة ما زال له علاقة بالتمييز العرقي بين الطبقة البيضاء شبه النقية، وبين الطبقات المهمشة ذات الأصول الملونة أو المختلطة.
يجعل هذا الفئات التي تناضل ضد التمييز العرقي والطبقي في أمريكا اللاتينية تنظر للصراع من منظور نظرتهم السلبية للاستعمار الأوروبي والنفوذ الأمريكي في بلادهم الذي اعتمد لسنوات على الطبقات الغنية البيضاء لترسيخ وجوده، بينما قاد اليسار في القارة النضال ضد هذا النفوذ الأمريكي والطبقة الإقطاعية والرأسمالية المتحالفة معه.
ولذا تشكل ميول زعماء أمريكا اللاتينية السياسية والأيدولوجية الدافع الأبرز في نظرتهم للقضية الفلسطينية، حيث تميل حكومات اليسار إلى دعم فلسطين كقضية تحرر وطني باقية من عهد الاستعمار، وهذه مسألة مركزية لدى اليسار اللاتيني عكس اليسار الأوروبي الذي يبدو أنه يعتبر حقوق المثليين وحماية الأرض من التلوث وأخيراً مواجهة روسيا ضالته النضالية الرئيسية.
الوجود العربي في أمريكا اللاتينية له تأثيره
كما يشكل العامل الديموغرافي بعداً آخر في التأثير على توجهات بلدان أمريكا اللاتينية تجاه القضية الفلسطينية. وعلى سبيل المثال، تعد تشيلي أكبر موطن لجالية فلسطينية خارج الشرق الأوسط، تقدر بحوالي نصف مليون، بينما تبلغ الجالية اليهودية في الأرجنتين 200 ألف، وهي الأكبر في أمريكا الجنوبية، ورغم ذلك توجد جالية عربية كبيرة في الأرجنتين (أغلبها لبنانيون وسوريون)، وهو الأمر الذي انعكس على حجم التظاهرات الداعمة لفلسطين في تشيلي والأخرى الداعمة لإسرائيل في الأرجنتين، وكذلك حجم التأثير على القرار السياسي.
من المرجح أن تؤدي حرب غزة، التي من المتوقع أن تطول نسبياً، إلى توتر علاقات دول في أمريكا اللاتينية، خاصة الحكومات اليسارية، مع “إسرائيل”، لكنّ موقف دول المنطقة يظل قابلاً للتغيير؛ اعتماداً على التغيرات السياسية المحلية وصعود قوى أخرى للسلطة، فعادة اليمين في دول أمريكا اللاتينية أقل تعاطفاً مع الفلسطينيين وأكثر انحيازاً للإسرائيليين وتساوقاً مع المواقف الأمريكية.
ومن المرجح أيضاً أن يلجأ بعض الزعماء في أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا إلى توجيه انتقادات مباشرة للإدارة الأمريكية باعتبارها الشريك الرئيسي لإسرائيل، ولكن دون أن يؤثر ذلك في الأجل القصير على التعاون الاقتصادي والأمني بين بلادهم وواشنطن، حيث إن معظم قادة يسار أمريكا اللاتينية، ونظراءهم في مناطق أخرى، يتبنون نهجاً واقعياً في علاقاتهم مع واشنطن لتلبية احتياجات بلادهم.
لكن في الأجلين المتوسط والبعيد، يرى العديد من دول الجنوب العالمي أن موقف الغرب من حرب غزة مقارنة بحرب أوكرانيا، هو دليل على أن الغرب يطبق القواعد الدولية بشكل انتقائي وفقاً لمصالحه، حسب منصة “أسباب”.
وسيكون لهذا التناقض أضرار بعيدة المدى على النظام الدولي ومصداقية المزاعم الغربية حول الالتزام بـ”النظام القائم على القواعد”، وهي العبارة المركزية التي تستشهد بها أمريكا وأوروبا لحشد الدعم ضد روسيا والصين.
فلم يعُد من حق الغرب وعظ العالم الثالث الآن، بشأن حقوق الإنسان والقانون الدولي الذي تعرّض لانتهاك شديد الفجاجة في حرب غزة بمباركة غربية صادمة.
بالإضافة لذلك؛ أدى الموقف الغربي من حرب غزة إلى زيادة الاستياء من بنية النظام الدولي القائم على مؤسسات مثل مجلس الأمن الدولي، في ظل غياب أي تمثيل لأفريقيا وأمريكا اللاتينية بين الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، وقدرة الولايات المتحدة بمفردها على تحدي الأغلبية الدولية من خلال حق النقض.
المفارقة أنه عندما استخدمت روسيا والصين حق الفيتو لعرقلة القرارات بشأن الأزمة الأوكرانية، بدأت الولايات المتحدة تفكر في توسيع مجلس الأمن أو إيجاد بديل له، وتبنت مناقشة مراجعة حق الفيتو لتجنب استخدام روسيا له، ولكن اليوم عادت أمريكا لعادتها القديمة بتحدي الإرادة الدولية الجماعية عبر هذا الحق الذي لم يرد من اخترعه من ورائه أي حق.
موقف واشنطن الداعم لإسرائيل يقوِّض مكانتها ويعطي شرعية للدول التي تتقارب مع الصين وروسيا
لذلك؛ فإن موقف واشنطن في حـرب غزة من المتوقع أن يساهم في تقويض مكانتها الدولية ولو قليلاً، ويدفع المزيد من دول الجنوب العالمي إلى البحث عن بدائل أخرى لتعزيز مصالحها، خاصة الصين وروسيا الخصمين الاستراتيجيين للولايات المتحدة، والمنظمات المتعددة الأطراف مثل مجموعة بريكس، فضلاً عن تطوير العلاقات البينية بين دول الجنوب نفسها وبعضها البعض، خاصة القوى المتوسطة مثل الهند وتركيا والبرازيل وجنوب أفريقيا.
يمكن القول إن الخلاف بين الغرب ودول الجنوب الرئيسية أعطى شرعية أخلاقية لمساعي دول الجنوب للتقارب مع الصين، وروسيا، بعدما كان الغرب يحارب هذا التقارب بشعاراته الأخلاقية التي تدين ديكتاتورية الصين ووحشية روسيا ومخالفتها للقانون الدولي وهي دعاية قد يكون قد تركت بعض التأثير في دول جنوبية ديمقراطية مثل دول أمريكا اللاتينية أو إندونيسيا أو جنوب أفريقيا.
لكن هذه المقاربة تحطمت تماماً أمام موقف قادة الغرب الداعمين لمذابح غزة، والذين يأمرون معاونيهم بطرد أي محتجين على الحرب من قاعاتهم الفاخرة بطريقة تذكر بـ”طرد” معاوني الرئيس الصيني الحالي شي جين بينغ للرئيس السابق هو جينتاو من مؤتمر الحزب الشيوعي الأخير، بعدما كان الرجل يجلس بجواره.
وعلى الرغم من أن قرارات القمة العربية الإسلامية الطارئة لم تلبِّ تطلعات شعوب 57 دولة شاركت فيها، إلا أنها تظهر تضامن تلك الدول فيما بينها لاتخاذ مواقف سياسية تعارض مباشرة السياسة الأمريكية والغربية إزاء حـرب غزة، وهو اتجاه من المرجح أن يتعزز مستقبلاً.
بكين وموسكو أكبر المستفيدين
يشير موقف الصين وروسيا من حـرب غزة إلى حرص الجانبين على الاستفادة من الحرب لتعزيز دوريهما كقوى دولية بديلة للقيادة الأمريكية المنحازة وغير الناجحة، وبالتالي حاجة العالم إلى نظام دولي بديل، متعدد الأقطاب، وغير خاضع للهيمنة الغربية.
لم يوفر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أي فرصة لوعظ الغرب وتحديداً الولايات المتحدة حول ازدواجية معاييرها وتسببها في تفاقم الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
بينما وفرت أزمة غزة للصين فرصة لإثبات أن لديها أوراقاً ضد واشنطن مثلما تفعل الأخيرة في تايوان وغيرها، كما فقدت اتهامات واشنطن لبكين باضطهاد الإيغور، تأثيرها في ظل إشراف واشنطن على المذبحة المروعة التي تتم في غزة أمام الكاميرات.
إضافة لذلك، منحت الأزمة الصين فرصة لترد لإسرائيل الصاع صاعين على قيامها بالاستجابة للضغوط الأمريكية لمنع الشركات الصينية من العمل في مجال النقل البحري في إسرائيل.
ويبقى التحدي الرئيسي أمام دول الجنوب العالمي هو مدى قدرتها على اتخاذ مواقف سياسية موحدة، والدفاع عنها، متجاوزة النظام الدولي الذي يهيمن عليه الغرب، بينما الكثير من تلك الدول ما زال مرتبطاً أمنياً واقتصادياً مع الغرب، ولا يجمعها فيما بينها تكتلات فاعلة بديلة بما يكفي لموازنة الكتلة الغربية المتماسكة والمتمحورة بصورة رئيسية حول حلف الناتو ومجموعة السبع والاتحاد الأوروبي.
كيف ستؤثر حرب غزة على شكل النظام الدولي؟
لن تمثل حرب غزة نهاية مفترضة للنظام الدولي القائم ولكنها أظهرت عوراته، كما أضعفت المزاعم الأخلاقية للغرب في خلال سعيها لمحاصرة الصين وروسيا، وأبعاد دول العالم الثالث عنهما، وهي مسألة ذات أهمية في عملية ترتيب شكل العالم في السنوات القادمة.
كما أن ازدواجية المعايير الغربية في الصراع أعطت شرعية كبيرة لانتقادات بكين وموسكو ومعهما كثير من دول جنوب العالم الرئيسية لهيمنة الغرب على النظام العالمي والمؤسسات الدولية، كما أن الجانب الأقل شهرة في نتائج الأزمة هو التغيير الذي أحدثته لدى الشعوب خاصة الشباب.
وأعادت الأزمة إظهار الوجه الاستعماري العنصري للغرب، الذي حاول التخلص منه خلال السنوات الماضية (رغم أن قواته كانت تحتل العراق وأفغانستان حتى سنوات خلت)، وباتت وصمة العنصرية والاستعمار تطارد الغرب مثلما كان الأمر في الخمسينيات والستينيات، وهو الأمر بالتأكيد سيساعد الصين المسلحة بقوة اقتصادية صاعدة ومعها روسيا في مساعيها لخلق نظام دولي منافس للنظام الذي يسيطر عليه الغرب.