أشعلت المذبحة القائمة دون معوّقات في غزة نيران الغضب والامتهان في صدر كل عربي ومسلم.
وإذا كان عدد الشهود على نكبة 1948 قليلاً وتفصلهم مسافات بعيدة، سنجد اليوم أننا أمام جيل كامل يعرف شكل الإبادة الجماعية ويشعر بها أثناء حدوثها.
حيث دفع العدوان الإسرائيلي بفلسطين لتصبح القضية الأخلاقية الأولى في العالم على غرار نهاية الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، أو حملة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة، أو إلغاء العبودية في القرن الـ19.
لكن وبعد مضي ستة أشهر، لم يؤد تدمير غزة حتى الآن إلى أي تغيير ولو بسيط في سلوك الأنظمة الأقرب إليها.
إذ تتصرف تلك الأنظمة وكأن شيئاً لم يتغير. وتستمر السلطة الفلسطينية في التعاون مع إسرائيل كل ليلة، لتضع بذلك ميلها للشقاق الحزبي فوق المصلحة الوطنية للشعب الفلسطيني. وتواصل مصر السماح لإسرائيل بأن تملي شروطها حيال كم المساعدات التي تدخل من معبر رفح. في ما يُسقِط الأردن كميات رمزية من المساعدات فوق غزة، لكن بعد الحصول على إذنٍ من إسرائيل فقط.
واستمعنا إلى الكثير من التهديدات، لكن الواقع يقول إن الدول التي طبّعت علاقاتها مع إسرائيل ليست مستعدةً لسحب اعترافها بتلك الدولة.
“الجميع يتحمل المسؤولية”
في مؤتمر ميونيخ للأمن الأسبوع الماضي، اتفق وزير الخارجية المصري سامح شكري في الرأي مع وزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة تسيبي ليفني على أن حماس تجاوزت الحدود، وذلك بسبب رفضها الاعتراف بإسرائيل. بينما تعرّض أكثر من 28,858 ضحية للقتل في غزة حتى ذلك التوقيت.
وبعد مضي أسبوعين، اجتمع ثلاثة من الساسة المخضرمين على خشبة المسرح في منتدى أنطاليا الدبلوماسي، وذلك للإدلاء بتصريحات إدانة تقليدية للحرب التي لا ينوون السماح لحماس أو غزة بالفوز فيها.
ففي تصريحه بعد يومٍ من المذبحة التي شهدت إطلاق القوات الإسرائيلية النار على الحشود حول قافلة مساعدات في شارع الرشيد بغزة، قال وزير الخارجية الفلسطيني رياض المالكي متبجّحاً: “إن السلطة الشرعية الوحيدة التي ستعمل وستواصل العمل في غزة هي السلطة الفلسطينية”.
وجاء هذا في وقت لا تحظى خلاله السلطة الفلسطينية بشعبيةٍ كبيرة على أرضها في الضفة الغربية المحتلة، وتواجه صعوبةً في تأكيد شرعيتها داخل نابلس أو جنين أو حتى رام الله.
بينما شعر وكيل وزارة الخارجية البحرينية عبد الله بن أحمد آل خليفة بالغضب عند سؤاله عما إذا كانت البحرين ترى أن الأوضاع طبيعية. لكنه مضى ليقول إن “تحقيق السلام لن يأتي من خلال العزلة أو التشدد أو الاعتداء، بل من خلال التواصل والحوار والسبل السلمية”، وهي إجابة تحمل المعنى نفسه.
ويكفي أن حسام زكي، الأمين العام المساعد للجامعة العربية، كان صريحاً عندما قال: “المجتمع الدولي بأكمله يعد شريكاً في هذا الفشل الذي يتحمل الجميع مسؤوليته”.
في ما اختارت دولة واحدة فقط الحديث بكلمات واضحة في منتدى أنطاليا، لكن تلك الدولة تبعد عن غزة مسافة 6,500 كيلومتر.
إذ تخلّت جنوب إفريقيا عن حذرها. وأبدت استعدادها للمخاطرة بالتعرض لعقوبات أمريكية من أجل اتخاذ موقف أخلاقي تجاه فلسطين -حيث يجري حالياً عرض قانونين لمعاقبتها أمام مجلس النواب في الوقت الراهن.
وقالت ناليدي باندور، وزيرة العلاقات الدولية في بريتوريا: “نحن شعوب غير متجانسة في الجنوب العالمي. لكننا نتشارك في شيء واحد وهو تعرضنا التاريخي للقمع والاستعمار. هذا هو ما يوحدنا في دعم كفاح فلسطين”.
وقد سافرت ناليدي إلى واشنطن الأسبوع الجاري من أجل الضغط ضد فرض عقوبات ستكون “كارثيةً” على بلادها. لكن جنوب أفريقيا وحيدة للغاية في هذا الطريق.
حيث قال فيصل دوجي، المدير الإعلامي السابق لحكومة جنوب أفريقيا، وهو يذكر الضغط الذي تعرضت له جنوب أفريقيا لسحب القضية قبل صدور الحكم الأوّلي: “لقد ذهبنا إلى محكمة العدل الدولية ونظرنا حولنا، فلم نجد أحداً خلفنا”.
ثم أردف: “ما يحدث في الأراضي المحتلة أسوأ بعشرة أضعاف من الفصل العنصري الذي تعرضنا له في جنوب أفريقيا، والغرب متواطئ في الفصل العنصري وفي الإبادة الجماعية”.
لكن تركيا، مُضيفة ذلك المؤتمر في أنطاليا، لم تكن بمعزل عن الانتقاد أيضاً.
ما الذي تفعله تركيا؟
حبس شعب غزة أنفاسه في مناسبتين خلال تاريخ تركيا الحديث. جاءت المناسبة الأولى في الـ15 من يوليو/تموز عام 2016، وهي ليلة الانقلاب الفاشل لغولن، أما الثانية فكانت في سنة إعادة انتخاب رجب طيب أردوغان.
فما الذي تفعله تركيا اليوم وغزة تحت رحمة قوةٍ غازيةٍ شرسة لا تفرق بين مقاتل ومدني، وتهاجم الحشود حول قوافل المساعدات بشكلٍ متكرر؟
بنت تركيا سياساتها الخارجية تجاه الحرب منذ البداية على افتراضين، لكن تبيّن أنهما موضع شك بعد مضي ستة أشهر. حيث نصت تلك السياسة الخارجية على أن أنقرة يجب أن تكون جزءاً من الإجماع العربي الإقليمي -وهو أمر لا وجود له كما اتضح لنا بصورةٍ مؤلمة.
وقالت إن تركيا ستكون دولةً ضامنةً لحل الدولتين: لا يوجد حل دولتين يمكن أن يكون الزعيم الإسرائيلي الحالي مستعداً لقبوله، ولم يُولَد بعد أي سياسي إسرائيلي مستعد للأمر بإخلاء أكثر من 750 ألف مستوطن مدجج بالسلاح في الضفة الغربية والقدس الشرقية المحتلة ومرتفعات الجولان.
تتجاهل قطر لعب دور الوسيط مع الجناح السياسي لحماس في الدوحة، وتركيا التي لديها اتصالات مع حماس وقريبة منها لم تشارك في هذا العبء.
لكي تؤخذ على محمل الجد كضامن، يجب أن تكون ظاهراً، والكثير مما فعلته تركيا كان وراء الكواليس.
وعلى المنوال نفسه، سعت أنقرة بقوة إلى توحيد فتح وحماس، وقد بدأ هذا الجهد يحقق النجاح. وقد أدلى جبريل الرجوب، الأمين العام لفتح، بتصريحات تصالحية إزاء حماس، لكن المحادثات توقفت عندما قتلت إسرائيل أوثق اتصال له في حماس، صالح العاروري، الذي كان يشاركه في نفس الزنزانة ذات يوم.
وقد شجع وزير الخارجية التركي هاكان فيدان الدول العربية على اتخاذ موقف ضد إسرائيل والولايات المتحدة، وقد نجح هذا إلى حد ما.
وبعد ازدراء حماس، اتخذت المملكة السعودية موقفاً أكثر عدوانية بشأن حل الدولتين، وتجاهل ولي العهد الأمير محمد بن سلمان وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في زيارته الأخيرة.
وقال أحد المسؤولين: “لقد أظهرنا لهم أن بإمكانك الصراخ في وجه أمريكا، لأننا فعلنا ذلك دائماً. لقد فوجئوا”.
أنشأت تركيا مجموعة الاتصال الخاصة بغزة لإقناع الدول الغربية التي تعارض وقف إطلاق النار الفوري. وتضم المجموعة دولاً إسلامية مثل إندونيسيا ونيجيريا. وتدعي تركيا الفضل في الجمع بين جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي لتقديم صوت إسلامي أوضح لبياناتهما.
هل نجح أي من هذا؟
الصبر الاستراتيجي بدأ ينفد
في 26 أكتوبر/تشرين الأول، صوَّتت 120 دولة لصالح قرار لوقف إطلاق النار بدعم من الأردن في الجمعية العامة للأمم المتحدة، مقابل تصويت 14 دولة وامتناع 45 عن التصويت. وشرع أردوغان وفيدان والوفد العربي الإسلامي في إقناع الدول التي لم تؤيد القرار. وبحلول ديسمبر/كانون الأول، أيدت 153 دولة وقف إطلاق النار، مقابل معارضة 10 دول وامتناع 23 دولة عن التصويت.
وفي هذه الأثناء، سحبت تركيا سفيرها لدى إسرائيل لكنها تواصل التجارة معها، ولكن بالفواكه وليس بالأسلحة.
لست متأكداً من أن لعب دور الرجل اللطيف مع إسرائيل أو الأنظمة العربية المحيطة بها سينجح.
إن تحليل هؤلاء المستشارين المحيطين بأردوغان حول تعفن الدول العربية وتواطئها العميق مع إسرائيل يظل صحيحاً كما لم يحدث من قبل.
إذا تمكنت تركيا من التصرف بشكل حاسم في ليبيا، وفي غضون ساعات معدودة، عندما أصبحت قوات خليفة حفتر على بعد 14 كيلومتراً من طرابلس، أو في أذربيجان، فمن الغريب أنها مترددة جداً في التحرك على عتبة بابها في غزة.
صحيح أنه كان هناك فراغ في السلطة الدولية في كل من ليبيا وأذربيجان. وفي غزة لا يوجد مثل هذا الفراغ. لكن التاريخ يفضل الجرأة. وما يفعله التردد هو ترك الملعب مفتوحاً أمام إسرائيل والولايات المتحدة، وهما سبب المذبحة في غزة.
لو كنت مكان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، فلسوف أميل إلى الاعتقاد بأنني قادر على الإفلات بسياستي القائمة على الحرب الأبدية، لأنه حتى الآن لم تظهر أي ضغوط دولية جدية لمنعه.
قد يكون هذا على وشك أن يتغير. قال فيدان خلال اجتماع لمنظمة التعاون الإسلامي في جدة هذا الأسبوع إن صبر تركيا الاستراتيجي بدأ ينفد: “هناك توقعات كبيرة منا للتحرك الآن، حتى لو كان ذلك يعني القيام بذلك من جانب واحد”.
كسر الحصار المفروض على غزة
لنكن واضحين حول ما يجب أن يحققه وقف دائم لإطلاق النار في غزة.
قبل فترة طويلة من بدء المفاوضات بشأن الدولة الفلسطينية الأسطورية -وهي دولة لا يمكن أن تنشأ إلا في ظل حكومة إسرائيلية جديدة وإطاحة وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش، اللذين يمثلان قوى الصدمة للتفوق اليهودي، وتلك ستكون أحداثاً كبيرةً في حد ذاتها بما يكفي- يجب أن يكسر وقف إطلاق النار الحصار المفروض على غزة.
إن الحصار ـ أي قدرة إسرائيل على حساب عدد السعرات الحرارية التي يخسرها كل فلسطيني في غزة يصل وصولاً إلى حد المجاعةـ هو ما يهم حقاً. إذا تركته كما هو فسوف تساوم إسرائيل على كل كيس طحين، وكل شيكارة أسمنت يمر عبر هذا الحصار.
سيأتي وقت لا تستطيع فيه الدول الإسلامية أن تظل متفرجة. عليهم أن يتصرفوا. عليهم أن يواجهوا أمريكا وأوروبا. وعليهم أن يهدموا الحجة القائلة بأن دولة الفصل العنصري لها الحق في ارتكاب الإبادة الجماعية وأنها تفعل ذلك باسم الدفاع عن النفس.
إن شعوري الداخلي هو أن لا الولايات المتحدة ولا الاتحاد الأوروبي، وكلاهما في سنوات الانتخابات، في مزاج يسمح لهم بالتراجع. ولن يتطلب الأمر الكثير لإجبارهم على قبول قوات عسكرية أخرى على الأرض، تحت ستار عمليات حفظ السلام أو المساعدات.
إن الولايات المتحدة منهكة في التعامل مع الشرق الأوسط بعد ثلاثة عقود من التدخل الفاشل. وتضاءلت قدرتها على ردع الحوثيين في البحر الأحمر، أو حزب الله في لبنان، أو الميليشيات العراقية بشكل كبير.
لقد حان دور إسرائيل لتشعر باليد الباردة للازدواجية الغربية. لقد طال انتظار مثل هذه الصدمة، ولا يمكن توصيلها إلا من خلال أقرب حلفائها.
عندها فقط قد تكون مستعدةً للتفاوض مع شعب بذلت كل ما في وسعها لسحقه. لقد طال انتظار ذلك.
– هذا الموضوع مترجم عن موقع Middle East Eye البريطاني.