“استوديو الأهرام قطعة غالية من تاريخ السينما المصرية عبر تسعة عقود.. ربما نمتلك الإمكانيات لنبني أكبر وأحدث منه، ولكن من أين نستعيد تاريخ السينما والدراما التي صُنعت بين جدرانه”.
هكذا عبر أنس الفقي وزير الإعلام المصري السابق، عن المخاوف التي انتابت الشعب المصري والعربي، مع الأنباء التي بدأت تتدوال عن حريق استوديو الأهرام، أحد الأعمدة الأساسية لتاريخ السينما والتلفزيون المصري والعربي عبر تاريخه.
فأعمال مثل ليالي الحلمية وأرابيسك وحديث الصباح والمساء والسيرة الهلالية وحضرة المتهم أبي وأفلام إسماعيل ياسين وأنور وجدي، وأفلام المخرج الراحل يوسف شاهين كلها ولدت من رحم استوديو الأهرام التاريخي العملاق.
وعلى مدار 6 ساعات لم تستطع جهود الدفاع المدني إنقاذ الجزء الخاص بالديكور الشعبي داخل استوديو الأهرام، وذلك بعد أن اندلع حريق بداخله في الساعات الأولى من يوم السبت 16 مارس/آذار 2024.
واستمرت النيران في استوديو الأهرام من الواحدة بعد منتصف الليل وحتى السادسة صباحاً، وقد التهمت ديكور هذا القسم بالكامل، وقد امتدت النيران لتحرق أكثر من 30 وحدة سكنية بالعمارات المجاورة للاستوديو.
قنبلة موقوتة مع شماريخ المسلسل كانت بداية الكارثة
وفق ما ذكره العديد من شهود العيان بموقع الحريق لـ”عربي بوست”، فقد كانت بداية الحريق من مشهد تمثيلي داخل مسلسل المعلم للفنان المصري مصطفى شعبان، حيث كان يتم استخدام الشماريخ داخل هذا المشهد.
ويتحدث محمد خالد، في العقد الرابع من العمر، وهو أحد أصحاب الشقق المحترقة المجاورة للاستوديو، وهو يشير إلى داخل الاستوديو من داخل شقته، ويقول لـ”عربي بوست”: “هنا في الجزء الأخير من المساحة المحترقة باستوديو الأهرام كانت بداية النار”.
وتابع خالد، ومازالت آثار الحريق على وجهه وملابسه: “منذ زمن ونحن نقول إن المساحة المخصصة للديكورات الشعبية قنبلة موقوتة، حيث كانت تتراكم فيها أطنان من الأخشاب”.
“وبالفعل لم يمر سوى دقائق حتى اندلعت النيران بالأخشاب، ولكن الكارثة الحقيقية عندما وصلت النيران لمخزن المعدات والأنابيب الخاصة بالاستوديو، فهنا حدث الانفجار الضخم الذي سمعه سكان المنطقة بعد منتصف الليل، وخرجت الأمور عن السيطرة في تلك اللحظة”، يضيف المتحدث.
وقد أكد العديد من شهود العيان أنه لا يوجد ضحايا من العاملين والفنانين داخل استوديو الأهرام أو من سكان المنطقة، وحالة الوفاة الوحيدة التي حدثت في الحريق، كانت لأحد أفراد الدفاع المدني، والذي سقط من عربة الإطفاء التي كان يعمل عليها، ولكن هناك العديد من الإصابات معظمها نتيجة الاختناق من رائحة الحريق.
ليس الحريق الأول
“أنا بقالي 55 سنة ساكن في المكان هنا، وكل فترة يحصل مشاكل بينا وبينهم، ونطلب إنهم يقطعوا الأشجار اللي بينا وبينهم عشان عاملة مشكلة، ولكن ما حدث أمس أنهم كانوا يصورون وحدث الحريق عن طريق الشماريخ”.
هكذا تحدثت أم ياسمين في العقد السادس من عمرها، من داخل شقتها المتفحمة بالدور السابع بإحدى العمارات المجاورة للاستوديو لـ”عربي بوست”.
“طالبنا الأجهزة المعنية بالانتقال إلى مدينة الإنتاج الإعلامي، وطوال السنوات الماضية أقمنا العديد من المحاضر، وكنا نستمع أصوات الصراخ والزغاريد طوال وجودنا في المسكن”.
وأضافت المتحدثة حينما نعود لهم يقولون إنه مشهد تصويري، وللعلم هذا ليس الحريق الأول، فقد تعرض استوديو الأهرام للحريق عدة مرات من قبل، ولكنها لم تكن بمثل كارثة الحريق الحالي، وللأسف تجاهل المسؤولون كل التحذيرات التي قلناها من قبل حتى حدوث الكارثة.
ملكية استوديو الأهرام
تعود ملكية استوديو الأهرام حالياً إلى شركة إدارة الأصول الثقافية والسينمائية، وهي شركة تابعة للشركة القابضة للاستثمار في المجالات الثقافية والفنية التابعة لوزارة الثقافة المصرية.
ولكن وبحسب المعلومات الواردة بالموقع الرسمي للشركة، فقد تم تأسيس استوديو الأهرام عن طريق شركة استوديو الأهرام عام 1945، والتي تكونت من “محمود باشا شاكر، ومحمود ثابت باشا، وأحمد بك مختار وشكري بك ويصا، ومسيو أ.أتيونوجين، ومسيو ب.بليني، ومسيو د.اكونومو، ومسيو أ.افراموسي.
وانطلقت رحلة الفن المليئة بالأمل والطموح، تحمل بين طياتها حلماً كبيراً في عالم السينما والفن، ولكن بداية فكرة تأسيس استوديو الأهرام تعود إلى قبل ذلك بعام، ففي عام 1944، وبين أزقة الجيزة الضاربة في التاريخ، تم رسم البداية على يد اليونانيين “أفابخلوس أفراموسيس” و”باريس بيلفيس”.
وبفضل تجهيزاته المتطورة ومساحته الشاسعة التي تزيد عن 27 ألف متر مربع، استطاع استوديو الأهرام أن يخلق بيئة مثالية لتصوير الأعمال السينمائية والدرامية، إذ تجاوزت الأعمال التي صوّرت داخل جدرانه الـ500 عمل، ما يجعله وجهة رئيسية للمخرجين والمنتجين السينمائيين في مصر.
ومن اللافت للنظر أن استوديو الأهرام توقف عن العمل لمدة 6 سنوات بعد تصوير مسلسل الجامعة الجزء الثاني عام 2017، ولم يعد للتصوير إلا العام الماضي 2023 من خلال مسلسل بابا المجال، بطولة الفنان مصطفى شعبان.
ولم تمر سوى أشهر قليلة حتى تعرض الاستوديو لحريق هائل، وهو يصور فيه مسلسله الجديد، ولم يعمل سوى عدة أشهر فقط، بعد أن عاد مرة أخرى للعمل من خلال تصوير مسلسل بابا المجال العام الماضي، وفي شهر رمضان 2024 جرى تصوير مسلسل المعلم بطولة الفنان مصطفى شعبان.
منها “المعلم” و”الكبير أوي”.. مصير مسلسلات رمضانية
رغم تصريحات وزيرة الثقافة المصرية بأن ديكورات الحارة التي شبت بها النيران كانت منشأة في أرض تبعد عن البلاتوهات والاستوديوهات والمباني الرئيسية والتاريخية لاستوديو الأهرام.
فإن هناك عدداً من الأعمال الرمضانية التي لم تنته عملية التصوير بها داخل استوديو الأهرام، ومازال هناك غموض حول كيفية استكمال تلك الأعمال التي تُعرض حالياً في شهر رمضان.
وقد التهم الحريق ديكور الحارة الشعبية المخصص لتصوير مسلسل “المعلم” للفنان مصطفى شعبان، وهو الديكور الرئيسي للأحداث في المسلسل، وفي أحد بلاتوهات الاستوديو يُصوّر مسلسل “الكبير أوي 8” من بطولة أحمد مكي، وهو المسلسل الذي تعرض أحد مواقع تصويره في منطقة المنصورية غرب القاهرة، لحريق كبير قبل بداية شهر رمضان بوقت قصير.
ولكن البلاتوه الخاص بالمسلسل في استوديو الأهرام لم تمتد إليه النيران، وفق تصريحات منسوبة لبعض أبطال العمل، ولم تصل النيران إلى بلاتوهات التصوير الأخرى الموجودة في الاستوديو، التي يستخدمها عادة صنّاع الأعمال الدرامية لإنجاز بعض المشاهد الداخلية.
فيما قال مرقس عادل، مخرج مسلسل المعلم: “سنجتمع بصفتنا صناعاً للعمل خلال الساعات المقبلة، لبحث طريقة التعامل مع المشاهد المتبقية، حيث يشكل الديكور المحترق للحارة الشعبية، الذي يضمّ السوق في المسلسل، نحو 75% من أحداث المسلسل التي تدور في شادر للسمك”.
وتقول الفنانة سلوى عثمان، التي تشارك في بطولة المسلسل: “يتبقى لفريق المسلسل نحو 15 يوماً من التصوير بشكل كامل داخل الديكور المحترق، وهي أيام خاصة بالمشاهد الموجودة في الحلقات الأخيرة، وللأسف المَشاهد المتبقية داخل السوق مهمة درامياً ومرتبطة بنهاية العمل”.
وأضافت أنها لا تعلم حتى الآن كيفية التعامل مع هذا الموقف الصعب، ولكنها رجحت إعادة بناء أجزاء من السوق، لاستئناف التصوير في موقع آخر قريباً.
وقد ذكر مصدر من داخل المسلسل لإحدى الصحف المحلية المصرية، أن مصطفى شعبان وأسرة مسلسل المعلم سوف يعاودون تصوير باقي مشاهد المسلسل اليوم الأحد.
استوديو الأهرام شاهد على تاريخ من الإبداع
وقد ارتبطت الشعوب العربية بمئات الأعمال الخالدة في تاريخ الإبداع العربي، وإنتاجاته المميزة، مثل مسلسلات “حضرة المتهم أبي” و”الملك فاروق”، إضافة إلى الأفلام السينمائية البارزة مثل “الهاربة” و “ابن حميد”.
ويُعتبر استوديو الأهرام من أقدم وأعرق استوديوهات الأفلام في مصر والشرق الأوسط، وكان شاهداً على تصوير مئات من الأفلام والمسلسلات الشهيرة، ويضم الاستوديو 3 بلاتوهات (مواقع تصوير) وصالة عرض وصالة دوبلاج، إضافة إلى معمل التحميض والطبع.
كان عام 1945 البداية الحقيقية له من خلال فيلم “عنتر وعبلة” الذي تم طبعه وتحميضه في معامله، ومن أشهر الأعمال التي تم تصويرها أو تحميضها في استوديو الأهرام، وفق ما ورد في موقع السينما: عروسة للإيجار (1946)، صاحب بالين (1946)، عروسة البحر (1947)، صاحبة الملاليم (1949)، فاطمة وماريكا وراشيل (1951)، الهاربة (1954)، الناصر صلاح الدين (1963)، الأرض (1969)، زقاق المدق (1963)، المصري (1998).
ومن مسلسلات الدراما التلفزيونية التي تم تصويرها في استوديو الأهرام: أرابيسك (1994)، ليالي الحلمية (1989)، المال والبنون (1992)، حديث الصباح والمساء (2001)، السيرة الهلالية (1998)، حضرة المتهم أبي (2006)، الملك فاروق (2007)، شقة فيصل (2019).
وعود المسؤولين
وبحسب ما رصده “عربي بوست”، فقد توافد العديد من المسؤولين بالدولة المصرية إلى موقع الحادث، فبجانب القيادات الأمنية الكبرى بمحافظة الجيزة، فقد حضر إلى موقع الحريق الدكتورة نيفين الكيلاني وزيرة الثقافة المصرية.
وقالت الوزيرة في أعقاب الزيارة إن الحريق اندلع في ديكور “الحارة الشعبية” فقط، وقد كانت منشأة في أرض تبعد عن البلاتوهات والاستديوهات والمباني الرئيسية والتاريخية لاستوديو الأهرام، والتي لم يصبها الأذى.
كما أكدت الكيلاني أن الوزارة في انتظار نتائج التحقيقات التي تُجريها النيابة العامة، وتقرير المعمل الجنائي للوقوف على أسباب اندلاع الحريق، ووجهت وزيرة الثقافة بتشكيل لجنة متخصصة -بشكل عاجل- لحصر الخسائر والأضرار بشكل دقيق.
وتوجه الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء المصري، إلى موقع الحادث ومعه نيفين القباج، وزيرة التضامن الاجتماعي، واللواء هشام آمنة، وزير التنمية المحلية، واللواء أحمد راشد، محافظ الجيزة، وعدد من مسؤولي الجهات والأجهزة المعنية.
وقد وعد رئيس مجلس الوزراء المصري بتعويض المتضررين من الحادث، والذي وعد سكان المنطقة بتحمل تكلفة إعادة الوضع كما كان قبل الحريق، قائلاً: “الأهالي لا ذنب لهم”.
آثار الحريق امتدت لتسبب تضرر واجهات 7 عمارات، وأكثر من 30 وحدة سكنية بشكل كبير، ووجه رئيس الوزراء بأهمية الاطمئنان على السلامة الإنشائية للمباني، وتشكيل لجنة عاجلة فورية مكونة من شركات المقاولات المعتمدة من محافظة الجيزة.
وسيتم الوقوف على حجم الضرر وإعداد مقايسات هندسية تضمن الوقت اللازم وتكلفة إعادة المباني لأصلها قبل الحريق، مع منح مبلغ 15 ألف جنيه كدفعة للأهالي المتضررة منازلهم كقيمة إيجارية لعدة شهور قادمة، وذلك لحين تأهيل المباني وإعادتها لوضعها الأصلي.
وانتقل فريق من أعضاء النيابة العامة المصرية بمحافظة الجيزة إلى موقع الحريق، وطالب بتحريات الأجهزة الأمنية حول الحريق؛ للوقوف على أسبابه، وكشفت المعاينة الأولية أن الاستوديو تحول لكومة من الرماد بعدما شبت النيران وقضت على محتوياته بالكامل.
خاصةً أن الديكورات في مواقع التصوير تحتوي على كميات كبيرة من الفوز والأخشاب والأقمشة، والتي ساعدت في انتشار النيران بسرعة كبيرة، وتقدر الخسائر المبدئية بملايين الجنيهات، نظراً لالتهام النيران ديكورات تصوير عدد من مسلسلات رمضان.
وأوضحت المعاينة أن سرعة الرياح ساعدت في انتشار ألسنة اللهب وامتدادها إلى شرفات العقارات الملاصقة للاستوديو، وأمرت بتشكيل لجنة هندسية لحصر الخسائر، ومعرفة مدى تضرر العقارات نتيجة الحريق، وتأثيره على سلامتها الإنشائية، مع إعداد تقرير تفصيلي بذلك، واتخاذ ما يلزم.
وقد انتدب خبراء الأدلة الجنائية لفحص موقع الحريق وبيان أسبابه ونقطة بدايته ونهايته، ومدى وجود شبهة جنائية في الحادث من عدمه، وكانت فصلت الجهات المختصة الغاز والكهرباء عن المنطقة المحيطة بحريق استوديو الأهرام، لتلافي حدوث انفجارات نتيجة اشتعال النيران.