لأكثر من مئة يوم من الاحتجاجات مازالت النساء يخرجن إلى الشارع في احتجاجات فكيك، الموجودة على الحدود الشرقية المغربية مع الجزائر، للاحتجاج على إسناد قطاع الماء والكهرباء بالمنطقة لشركة خاصة.
وما ميّز هذه الاحتجاجات أنها تشهد مشاركة النساء فقط دون الرجال، يخرجن مرتدين لباس “الحايك” التقليدي المعروف في المنطقة، مطالبات برفع الخصخصة عن قطاعَي الماء والكهرباء، بعدما دأب المجتمع الفكيكي على تدبير مياهه لمدة قرون.
تفاصيل احتجاجات فكيك
لعب الماء دوراً في تشكيل البنيات الاجتماعية والقبلية في منطقة فكيك لعدة قرون، وأَدرجت منظمة الأغذية والزراعة المدينةَ ضمن المنظومات المبتكرة للتراث الزراعي ذات الأهمية العالمية، بسبب التنوع البيولوجي والزراعي بفضل تدبيرها البارع للمياه.
وباعتمادها الأساليب التقليدية في منظومة التوزيع العادل للمياه الجوفية، أسهمت “الجماعة” (القبيلة) في فكيك، وفق نظام جماعي متفق عليه، وبقوانين محددة في استقرار القبائل، وذلك عبر تخصيص حصة من الماء لكل مالك على أساس المدة الزمنية والحجم، بالإضافة إلى الحق في الري.
ومع تزايد عدد السكان في مدينة فكيك، التي تصلها نسبة مهمة من المياه من الجبال المحيطة بها، اتخذ المجلس القروي آنذاك قراراً بإنشاء شبكة لتوزيع مياه الشرب، وتم تنفيذ هذه الشبكة على مدى سنتين، من 1961 إلى 1962، بشكل جماعي، من خلال عمل “التويزة”، وهي العملية التي شملت كل قصور فكيك.
والتويزة ومعناها التعاون، هي موروث ثقافي مغاربي تُجمع فيه وتتعاون جماعة من المجتمع أو القرية من أجل المساهمة في إنجاز عمل خير، أو مساعدة محتاجين أو فقراء، أو بناء منزل لشخص، أو مسجد، أو جني حقول القمح وأشجار الزيتون.
وشارك السكان كلهم في إنجاز هذا العمل من حفر الخنادق بين الأزقة، وتركيب الأنابيب وتوصيلها إلى داخل المنازل، إلى اقتناء العدادات والمعدات اللازمة، وغير ذلك من المهام المختلفة، كما أسهم الجميع بقدر من المال، كل حسب إمكانياته.
غير أن هذا التعاون والاتحاد في تدبير الماء في مدينة فكيك اصطدم بقرار مجلس المدينة، في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، بإسناد استغلال الماء والكهرباء إلى إحدى الشركات الجهوية التي أحدثت طبقاً للقانون 83.21 المتعلق بإنشاء الشركات الجهوية متعددة الخدمات، الذي دخل حيز التنفيذ مؤخراً.
هذا الأمر دفع سكان المنطقة للاحتجاج على خصخصة تدبير قطاع الماء في مدينة فكيك، فقرروا الاحتجاج على القرار، لكن بطريقة مختلفة، إذ خرجت النساء فقط دون الرجال بلباسهن التقليدي الذي يُعبر عن المنطقة.
ويحمل لباس “الحايك” الناصع البياض، الذي ترتديه النساء في احتجاجات فكيك عدة دلالات رمزية، تتمثل في تشبث المرأة الفكيكية بموروثها المائي كما تتشبث بإرثها المادي والثقافي في الواحة.
لماذا احتجاجات فكيك بصيغة المؤنث؟
حول حضور النساء بشكل خاص في احتجاجات فكيك تقول كريمة دبشي، عضوة التنسيقية المحلية للترافع عن قضايا فكيك “إن صوت المرأة الفكيكية التي خرجت إلى الشارع دليل على وعيها بمطالبها المشروعة التي تناضل من أجل تحقيقها”.
وقالت دبشي في حديثها لـ”عربي بوست” إن الحضور الوازن للمرأة في احتجاجات فكيك راجع للخلل الموجود في البنية السكانية لفكيك، إذ إن نسبة النساء بفكيك يصل إلى حوالي 60%، بسبب الهجرة التي تعاني منها المدينة في غياب البنيات التحتية، وتقزيم المجال الحيوي للأراضي الفلاحية، الذي أسهم بشكل كبير في التهجير القسري لسكان المدينة”.
كما أن هذه المرأة تناضل منذ أربعينيات القرن الماضي كمقاومة في إطار الحركة الوطنية، كمربية للأجيال، وتكافح اجتماعياً من خلال أدوارها التقليدية، واقتصادياً من خلال مساهمتها في إنتاج الجلابيب والسلاهيم، تُضيف المتحدثة.
وتؤكد عضوة التنسيقية المحلية للترافع عن قضايا فكيك، أن الاحتجاجات المطالبة بإسقاط هذا القرار مستمرة، فرغم طَرْقنا لمجموعة من الأبواب فإننا لم نجد عندها آذاناً مصغية.
وقالت: “سنقوم بنشر قضيتنا عبر وسائل الإعلام الوطنية والدولية، إلى أن نسترجع حقنا في تدبير المياه سواء السقي أو الري، باعتباره حقاً ورثناه منذ قرون ولن نفرط فيه”.
القرار غير قانوني
تناول تقرير أصدرته التنسيقية المحلية لحراك فكيك ومجموعة المتابعة بالرباط بالمغرب بعض التوضيحات اللازمة بشأن القانون 83-21، المتعلق بالشركات الجهوية متعددة الخدمات في المغرب، ويركز أكثر على إشكالية تنزيله بالشكل الذي هو عليه في المدينة الواحية.
وقسم التقرير أسباب احتجاج السكان في أربعة محاور، يتمثل الأول في عتبة مساهمة الدولة المقلقة، التي لا تتجاوز نسبة 10% في رأس مال الشركات متعددة الخدمات، وهو ما من شأنه أن يشكك في التأثير بالتوجهات الاستراتيجية لهذه الشركات من طرف الدولة.
ويتمثل السبب الثاني في تخوف السكان من تغليب الجانب الاقتصادي على الاجتماعي، علماً أن “مسألة الأرباح هي الأولوية القصوى لكل شركة، فإن هذا المعطى قد يؤدي حتماً إلى إهمال الجانب الاجتماعي المتعلق بالاستفادة من قطاعي الماء الصالح للشرب والكهرباء من منظوره التكافلي”، حسب التقرير.
وفي المحور الثالث يرى السكان أن هناك غموضاً تعاقدياً يكتنف التفويت، وعبّرت الوثيقة ذاتها عن ذلك بالإشارة إلى أن عدم الوضوح بشأن مدة العقود يمكن أن يؤدي إلى تقويض الثقة طويلة المدى بين هذه الشركات متعددة الخدمات والجماعات المحلية بفكيك.
وأخيراً ربط التقرير أسباب الرفض بخطر التأثير على جدولة الأسعار المحلية، إضافة إلى كون الصلاحيات “المبالغ فيها” التي ستُمنح لهذه الشركة، من شأنها أن تهدد الحقوق الفردية من الماء لأهل الواحة.
كما كشف التقرير أيضاً عن أزمة الديمقراطية داخل هياكل المجلس الجماعي بفكيك، ويطرح إشكالية التأثير الذي مارسته السلطات الإقليمية لنزع موقف ضد اختيارات المواطن الفكيكيي بعد التصويت في دورتين، الأولى بالرفض الجماعي، والثانية بالقبول بالأغلبية.
هذا التحول المفاجئ الذي تم بدون استشارة السكان، وتحت شبهة الضغط، أثار تساؤلات عديدة لدى المواطنين حول شرعية القرار وتداعياته المحتملة على استقرارهم، وأدى إلى خروج آلاف المواطنين إلى الشارع في تظاهرات عارمة، للتعبير عن احتجاجهم على القرار الذي يعارض المبادئ الدستورية الأساسية للبلاد.
ويقول أحمد نور الدين، عضو مجموعة متابعة حراك فكيك بالرباط بالمغرب، إن الحراك “أهدافه اجتماعية، وليست سياسية، فهو حراك يطالب باحترام القانون، (على اعتبار أن التصويت لصالح التفويت غير قانوني).
كما دعا نور الدين في حديثه لـ”عربي بوست” لاحترام ما ينص عليه الدستور المغربي فيما يخص فصل السلطات، وعدم منح السلطات حق التدخل في إلغاء مقررات الجماعات المحلية، كما من حق العامل أن يطعن في قرار ما أمام المحكمة الإدارية لإلغائه.
وأبرز عضو المتابعة بالرباط أن هذا الحراك هدفه “الدفاع عن تدبير الماء بهذه المنطقة، مشيراً إلى أن اختصاص تدبير الماء ذاتي، وليس عرضياً بقوة القانون، مشدداً على أن تلك الاحتجاجات سلمية، لا تعيق حركة السير، وبالتالي لا داعي للضغط على المتظاهرين الذين يدافعون على حقهم المشروع”.