يحتفل العالم بالذكرى الـ75 لصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي يصادف يوم 10 ديسمبر من كل عام. وإذا ذهبنا اليوم لنبحث عن مصْداق لهذا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ونتحقق من فاعليته وجدواه، ونتأكد من رصيده في حياة الناس ومغزاه، فماذا نجد؟ لا شيء، أو فَلْنقُل إنا سنجد كل شيء مؤلم ومحزن ومدمر ومُميت.
لقد ارتكبت الدول الخمس الكبرى التي تتمتع بحق الفيتو في مجلس الأمن، ودول أخرى تسير في رَكْبها أو تضاهيها- لقد ارتكب هؤلاء جميعاً باسم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، جرائم كبرى لا تزال آثارها قائمة في حياة الناس، وفي الأجيال المتعاقبة وفي البيئة وفي كل مكان. وبعد هذه الفترة الطويلة من عمر هذا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، لا تزال بنوده، رغم دلالاتها الواضحة، تُفسَّر تفسيرات عديدة متحيزة، وتُشرح شروحاً مُوجَّهة تبعاً لأهواء الدول الكبرى، ومصالحها المختلفة وأهدافها الاستعمارية.
وإن الذي تَطويه وسائل الإعلام العالمية، والدراسات المتحيزة أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان قد وُلد بضعة أشهر، بعد اعتداء صارخ وجريمة كبرى، كان ضحيَتها الفلسطينيون الذين طُردوا من أرضهم، وشُرّدوا في العالم، وأقامت العصابات الصهيونية المسلحة بمساندة الدول الكبرى وتواطئها دولة فوق أرضهم في 14 مايو سنة 1948. وكأن ميلاد هذا الإعلان العالمي جاء تزكيةً لجريمة القرن الكبرى، وتبريراً لهذا الاعتداء البَواح، أو كأن هذه الدول الكبرى قد أعلنت، بهذا التواطؤ، عن هوية هذا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وكشفت عن برنامجه وعن مبتغاه.
الصهيونية والغرب الاستعماري.. وجهان لهمجية واحدة
إن إحدى آثار الحرب الإسرائيلية الهمجية المسلطَة على غزة، بدعم أمريكي وأوروبي، منذ أكثر من شهرين، أنها أخرجت إلى السطح كل المكنونات، وأظهرت في المواقف والأقوال بشكل سافر ووَقح، ذلك التواطؤ التاريخي للغرب الاستعماري مع الاحتلال الإسرائيلي الغاصب لفلسطين. فقد عَرّت هذه الحرب الضمير الجمعي السياسي الرسمي في أمريكا وأوروبا، الذي طالما صدع رؤوسنا بخطاباته الطويلة وأحاديثه المُملة في كل مناسبة وحين عن حقوق الإنسان ومبادئ القانون الدولي الإنساني ومعاهدات جنيف الأربع. وقد أفرزت الحرب الإسرائيلية على غزة قذارة السياسة الرسمية الغربية، وظهرت هذه المنظومة السياسية الغربية على حقيقتها أمام العالم: همجيةً متوحشةً وعاريةً من كل القيم الإنسانية، ومجردة من كل الادعاءات والشعارات والمساحيق، تتسابق في إعلان مساندتها المادية والمعنوية للجيش الإسرائيلي الذي يقترف المجازر، ويصنع الدمار والموت والخراب، وأظهرت هذه الحرب الإسرائيلية على غزة أيضاً، الوجه القبيح لهذه السياسة الغربية، وازدواجيتها الممقوتة في المعايير بين الضحايا في أوكرانيا والضحايا في غزة. وقد بلغت شناعة هذه السياسة الغربية مستويات من الخساسة، مَنَعتها من إبداء ولو نصيباً قليلاً من التعاطف، والمواساة أمام صور الموت والدمار، وكميات الكراهية والحقد المصبوبة على الفلسطينيين العُزل، وقصف المستشفيات واقتحامها، وتدمير المرافق العامة، وموارد العيش في غزة.
إن الذي اكتشفه العالم على المباشر، أن الضمير الجمعي السياسي الغربي ضمير متوحش، لا يَمُتّ إلى الإنسانية بصلة، ولا يتمتع بأدنى درجاتها أمام مشاهد القتل الهمجي الذي يكون أُولَى ضحاياه الرضع والأطفال والنساء والشيوخ.
والذي أكدته هذه الحرب الهمجية أيضاً، أن التواطؤ التاريخي للسياسة الرسمية الغربية مع الاحتلال الإسرائيلي لم ينقطع أبداً، وأن الصهيونية التي نشأت في أحضان الظاهرة الاستعمارية الحديثة هي ظاهرة استعمارية أخرى، منفلتة من كل القيود والقيم والالتزامات، وأن الغرب الاستعماري والصهيونية وجهان لهمجية واحدة، وأن الهمجية والوحشية هما من أدواتهما الأساسية لتحقيق السيطرة والقهر والإذعان.
والمتابع لفصول هذه الحرب العدوانية على غزة، يدرك أن هذا التواطؤ الغربي الرسمي مع الصهيونية الإقليمية على القتل الهمجي للفلسطينيين العُزل، وقطع الطعام والماء والدواء عنهم، وإراقة دماء الأطفال والنساء والشيوخ، والقصف المتواصل للسكان والمنشآت والهدم والتدمير، كل ذلك يؤكد أن الصهيونية والغرب الاستعماري في أمريكا وأوروبا، يمثلان التهديد الحقيقي للأمن والسلم في العالم، وأن تواطؤ الصهيونية والغرب الاستعماري على الإبادة الجماعية في غزة هو أيضاً تهديد للأمن والسلم الدوليين، وهذا هو الأمر الذي نبّه إليه الأمين العام للأمم المتحدة، وهو المعنى المستفاد من رسالته إلى رئيس مجلس الأمن، بناء على المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة، للَفت انتباهه إلى أن الإبادة الجماعية الجارية للفلسطينيين في غزة، هي تهديد للأمن والسلم في العالم.
جرائم الغرب الاستعماري باسم حقوق الإنسان وقيم الحرية والعدالة
إن الجرائم التي ارتكبها الغرب الاستعماري باسم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وباسم قيم الحرية والعدالة لا تُعد ولا تُحصى. فأمريكا لا تَخفى جرائمُها الحربية في فيتنام وأفغانستان، وفي الصومال والعراق، وقبل ذلك في هيروشيما وناغازاكي في اليابان.. وهذه الجرائم قد أتَت على الأخضر واليابس، ولا يزال الناس، إلى اليوم، يُعانون آثار هذه الجرائم ودمارها. وكذلك الحال بالنسبة لبريطانيا العظمى وإيطاليا وألمانيا، ومستعمراتها في أفريقيا وفي شبه القارة الهندية.
أما فرنسا فجرائمها في الجزائر تحتل الصدارة في تاريخها الاستعماري الأسود. ولا تزال فرنسا، إلى اليوم، دولة استعمارية حاقدة تزرع الموت وتصنع الدمار، في أفريقيا، توسيعاً لمناطق نفوذها، وتمارس الإرهاب الدولي باسم حقوق الإنسان وقيم الحرية والعدالة، تحقيقاً للسيطرة على القارة السوداء ونَهب ثرواتها. وقد بلغ الافتراء بفرنسا، بلد الحريات، حدّاً لا يُطاق، فلم تتورّع عن إصدار قانون 23 فبراير سنة 2005، الذي يمجّد الاستعمار الفرنسي ويُشيد بمنافعه ومزاياه على الشعوب والبلدان التي خضعت له!
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وثيقة فارغة من أي رصيد
لقد كشفت الإبادة الجماعية الجارية فصولها في غزة المحاصرة، بتواطؤ الغرب الاستعماري مع الصهيونية الإقليمية، أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، في ذكراه الخامسة والسبعين، ليس سوى وثيقة فارغة من أي رصيد، يستعملها الغرب الاستعماري وفق أهوائه ومصالحه، ويتاجر بها لتأبيد سيطرته المطلقة على شعوب العالم التي بدأت منذ أكثر من 200 سنة.
وبعد هذا الدعم الغربي الفاضح لمسلسل هذه الإبادة الجماعية غير المسبوقة، يحق لنا أن نقف متسائلين:
– ما الذي يبقى من شرعية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان حين تكون الدول الراعية له كأمريكا وأوروبا، مشاركة في الإبادة الجماعية في غزة، بدعم دولي فعلي وعلني، ولم تحرك ساكناً بعد قطع الاحتلال الإسرائيلي لكل مقومات الحياة كالطعام، والماء والدواء عن سكان غزة، وإعلانه الحرب الهمجية وعليهم، منذ أكثر من شهرين؟
– وما الذي يبقى من قيمة للإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يبدو مستمتعاً وهو يشاهد،على المباشر، صور الموت والدماء، والجثث المفحمة والأشلاء، وقتل الأطفال والنساء، والدموع والأحزان، والهدم والخراب، والقتل الأعمى والقصف اليومي الذي يقضي على كل مقومات الحياة في قطاع غزة الذي يعاني الحصار المدمر منذ 17 سنة؟
– وما الذي يبقى من جاذبية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يمارس الازدواجية والانتقاء، فيُطلق العنان لدمويته في غزة وفلسطين، ولكنه يستعيد إنسانيته في أوكرانيا وفي غيرها؟
– وما الذي يبقى من رصيد للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والقانون الدولي الإنساني ومعاهدات جنيف الأربع لسنة 1949 بعد قصف الاحتلال الإسرائيلي للمستشفيات،في غزة، واقتحامها وتدمير المعدات الطبية، وإتلاف الأدوية واستهداف الأطقم الطبية والمُسعفين، وإجلاء المرضى والاعتداء عليهم.و لم يَسلم من همجيته حتى الرضع حديثي الولادة، وذوي الأمراض المزمنة والعاهات، بلْهَ الموتى الذين تحللت أجسادهم بعد منع دفنهم..؟
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعبة في أيدي الدول الاستعمارية
لقد أصبح الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعبة في أيدي الدول الكبرى المسيطرة على ثروات شعوب العالم الثالث، بل أصبح وسيلة فعالة للقهر والإبادة والاستئصال. وكل أحداث القرن العشرين، مضافاً إليها الجرائم الكبرى التي افتُتح بها هذا القرن الجديد، والحروب المتعاقبة ومؤامرات الانفصال والتقسيم.. كل ذلك يزكي هذا القول ويَعضده. وإن المتأمل في الأحداث المعاصرة، لا يفوته ملاحظة أن الحديث عن حقوق الإنسان يصاحبه، دائماً، الرغبة الأمريكية والأوروبية في استعمار الدول وإذلال شعوبها. وكثيراً ما تُتخذ مبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مطيةً لغزو مجتمعات العالم الثالث، أو تفكيكها وتغيير ثقافتها، ونمط الحياة فيها وأساليب التفكير.
إن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ببنوده الثلاثين التي احتواها مع النقص الملاحظ عليه، كان ممكناً أنْ يحقق بعض العدالة والحرية، وبعض الكرامة والمساواة، ويقضي على بؤر التوتر في العالم، ويخفف، قليلاً أو كثيراً، من معاناة الضعفاء والمحرومين فوق هذه الأرض. ولكن شيئاً من ذلك لم يتحقق لأن الكبار المنتصرين بعد الحرب العالمية الثانية، الذين وضعوا هذا الإعلان العالمي، وسطروا بنوده لا يريدون لمبادئ الحرية والعدالة والحق، والمساواة والكرامة الإنسانية أنْ تنتعش في هذا العالم أو أنْ تسود. وكيف يفعلون ذلك وهم أول من يغتصب هذه المبادئ الإنسانية الخالدة، وأول من يَدُوسها ويُهينها، وأول من يقتلها ويُفنيها؟
هذا هو واقع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بعد 75 سنة من صدوره، وبعد 75 سنة من احتلال فلسطين بالتواطؤ مع الغرب الاستعماري. وهذا هو حال الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي وضعه الكبار المنتصرون، بعد الحرب العالمية الثانية، لإحكام سيطرتهم على الصغار وعلى الضعفاء في كل مكان بالضغوط المختلفة، ولإملاءات واستعمال القوة والإرهاب. وهذه هي فصول الإبادة الجماعية غير المسبوقة الجارية في غزة، بمساندة الدول الراعية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان ودعمها. وهذا هو القتل الأعمى والاستئصال الوحشي الذي يُرتكب باسم هذا الإعلان العالمي، وذلك هو الخراب والدمار الذي يتحقق تحت لوائه.
وفي انتظار أنْ تتحقق عودة الوعي العالمي، وتستعيد شعوب الأرض المُحبة للسلام زمام المبادرة من أيدي هؤلاء المجرمين الكبار، ويستعيد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان حُرمته وفاعليته وجدواه، فإن هذا الإعلان العالمي سيظل مطية للهيمنة والعدوان، ووسيلة للقهر والإذلال، ومبرراً مناسباً لكل عمليات الإبادة والاستئصال، ووثيقة فارغة من كل معنى ضرُها أكبر من نفعها.