منذ اندلعت عملية “طوفان الأقصى” برز على الساحة الدولية ـوخاصة الدول الخمس الكبرىـ توجّهان رئيسيان في التعامل مع الحرب، أحدهما تمثله الولايات المتحدة الأمريكية بما يخدم مصالح إسرائيل بشكل مباشر ولافت إلى مدى الترابط الوثيق بين الدولتين، الذي دفع الرئيس بايدن إلى القول: “لو لم تكن إسرائيل موجودة لكان علينا إيجادها”، متجاهلاً الحقَّ الفلسطيني بشكل كامل.
التوجه الآخر، مثَّلته روسيا، الدولة التي شنت حرباً لم تضع أوزارها بعد على أوكرانيا، وكانت حديثاً للعالم كله منذ أشهر قليلة، وكادت أن تدخل في عُزلة حاولت الولايات المتحدة فرضها عليها، باستخدام وسائلها وحلفائها الدوليين في دعم أوكرانيا، بمن فيهم إسرائيل التي دعمت أوكرانيا في هذه الحرب، ثم سرعان ما لاقت رد الفعل الروسي “المحبط” عن حدوث الحرب على غزة.
شكَّلت “طوفان الأقصى” مخرجاً أو فرصة، إن صحَّ التعبير، لروسيا، حتى تستطيع توجيه الأنظار إلى غزة بعيداً عن أوكرانيا، ولتحويل الانتقادات الدولية إلى واشنطن بدلاً من موسكو، وتوجيه السهام نحو السياسات الأمريكية التي يحمّلها الرئيس بوتين مسؤولية ما يجري في غزة بالدرجة الأولى.
التعارض بين الموقفين برز في مجلس الأمن، عندما استخدمت كلتا الدولتين موقفاً مضاداً للآخر في التصويت على مشروعات القرارات بشأن الحرب في غزة.
ففي أعقاب الحرب على غزة مباشرة، صاغت روسيا مشروع قرار، في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، يدعو إلى وقف إطلاق النار لأسباب إنسانية، وقد فشل مشروع القرار في الحصول على الحد الأدنى من الأصوات للموافقة عليه، وكان في مقدمة الدول الرافضة للقرار الولايات المتحدة، بالإضافة إلى فرنسا واليابان والمملكة المتحدة.
لم يقف الأمر لدى الإدارة الروسية عند حدود انتقاد السياسات الغربية بقيادة الولايات المتحدة، بل تعدى إلى استهداف تنامي الدور الروسي في قضايا المنطقة العربية والشرق الأوسط، وتجديد الثقة في السياسة الروسية كوسيط دولي في أزمات المنطقة، التي تعتبر موسكو لاعباً رئيسياً فيها.
فمع بداية الحرب على غزة، عملت موسكو على توظيف الانحياز الأمريكي لإسرائيل في بناء سردية تعزز من شرعية روسيا وحضورها في العالم العربي والإسلامي، عبر حديث بوتين عن تجاهل واشنطن للحقوق التاريخية المشروعة للشعب الفلسطيني.
وفي هذا السياق، يمكن قراءة تصريحات أدلى بها وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في مسألة الحرب الفلسطينية- الإسرائيلية، حيث قال إن “روسيا مستعدة لمناقشة ودراسة مبادرة تركيا لإنشاء منظومة الدول الضامنة لأطراف النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني”.
من ناحية أخرى، تأكيد روسيا على استعدادها لإحياء مسار التطبيع بين تركيا وسوريا، بعد أن سيطر الجمود على محادثات تطبيع العلاقات بينهما، بعد آخر اجتماعات بين أطراف مسار التطبيع (تركيا ـ سوريا ـ إيران ـ روسيا) في 20 يونيو 2023، في إطار اجتماع أستانا الذي ترعاه موسكو.
الزيارة التي قام بها كذلك الرئيس بوتين إلى الخليج -وشملت الإمارات والسعودية- والتي يطمح من خلالها الرئيس الروسي إلى تمكين علاقات أبعد من قطاع الطاقة مع دول الشرق الأوسط والخليج خاصة، والبناء على موقفها المتوازن بشأن الحرب في أوكرانيا في وقت شنّت فيه الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة حرباً اقتصادية وسياسية وعسكرية، من أجل تهميش مكانة روسيا وفرض عزلة على زعيمها.
وبغض النظر عن مضمون ما تحدث به بوتين مع زعماء الدولتين، فإن حفاوة الاستقبال والتأكيد على “متانة العلاقات مع الدولتين” في ظل الحرب على غزة والتوترات الإقليمية الأخرى، هي بمثابة رسالة بأن العلاقات الروسية مع الشرق محل اهتمام في هذه المرحلة، وهو أمر مهدد لدور الولايات المتحدة نسبياً، خاصة أن واشنطن تتخوف -من جهة أخرى- من أن ما جرى يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول يثبت ويعمق المكاسب لإيران وحلفائها في المنطقة العربية، وهذه المكاسب تعد بالتبعية “مكاسب روسية”؛ لأن حلفاء إيران في الشرق الأوسط هم حلفاء بالتبعية لروسيا، بل تنظر واشنطن إلى أذرع إيران في المنطقة باعتبارهم أعداء تقليديين للولايات المتحدة وداعميها الغربيين، وأن تحول الشرق الأوسط إلى مستنقع سيكون حصرياً لصالح روسيا والصين، ومعهما إيران.